بحث شامل حول :الحتمية الطبيعية ومسألة علاقة الإنسان بالوسط الطبيعي |
تقديم عام:
شغلت العلاقة بين الإنسان وبيئته اهتمام نفر من الفلاسفة وعلماء الاجتماع والجغرافيين منذ عصور موغلة في قدمها، حتى إن رهطاً من هؤلاء بالغ في تأثير البيئة على الإنسان، إلى الحد الذي اعتبر فيه الإنسان صورة من صور هذه البيئة.
وقد تطورت فكرة الجغرافيا الرئيسية التي تتمحور حول دراسة علاقة الإنسان مع البيئة عبر تاريخ طويل وتمخضت عنها مناقشات وحوارات مطولة عن موقف الإنسان فيما يتعلق بالطبيعة، وأثيرت عدة تساؤلات يمكن تلخيصها في الآتي:
ü هل الإنسان جزء من الطبيعة أم منفصل عنها ؟
ü إلى أي مدى يمتد تأثير البيئة على الإنسان؟
فمنذ العصور القديمة وحتى الآن سيطرت فكرة أن الإنسان هو نتاج للبيئة. و خلال القرن التاسع عشر جاءت نظرية دارون عن التطور والارتقاء في العلوم البيولوجية لتوضح أن الحياة تطورت نتيجة أفعال منتقاة من القوى الطبيعية و هو ما يعرف بمفهوم الانتخاب الطبيعي الذي يؤكد عملياً على وضع الإنسان كمخلوق يتكيف مع بيئته المحيطة.
وفي نفس الوقت يتضح ذلك في دراسة العلوم الاجتماعية حيث تتأثر مظاهر السلوك البشرى مثل معدلات الزواج في المملكة المتحدة على سبيل المثال بأسعار القمح والنتيجة تبرهن على أن الإنسان ليس حر ولكنه محكوم بقوانين اقتصادية وطبيعية، مما جعل الكثير من الجغرافيين يركزون الاهتمام في دراستهم على تأثير البيئة الطبيعية على الإنسان الذي يعتبر مخلوق سلبي تتحكم فيه القوى الطبيعية،
وهكذا تنحصر مهمة الجغرافيين في دراسة تحديد وصياغة القواعد والقوانين العلمية التي تحكم العلاقة بين الإنسان والبيئة ،هذا المنهج المعروف بمنهج الحتمية Déterminismeوقد اعتنق هذا المبدأ مجموعة من العلماء والجغرافيين من أهمه نجد: ، مونتيسكيه، فريدريك راتزل جون بودان هذا الأخير يعتبر من بين أشد المتحمسين لهذا المبدأ الذي رغم الانتقادات الكبيرة ظل يقاوم .
وبصفة عامة يقروا أصحاب هذه النظرية أن الإنسان يخضع بكل ما فيه للبيئة فهي التي تسيطر عليه وليس العكس كما يتردد ويشاع، فالبيئة بما فيها من مناخ معين وغطاء نباتي وحياة حيوانية تؤثر على الإنسان من مختلف الجوانب ومثال على ذلك :تأثير البيئة على عظام الإنسان، فإذا كان الإنسان يعيش في بيئة جبلية يكون تأثيرها بالإيجاب على تقوية عضلات الأرجل .. أما إذا كانت بحرية فهي تقوي عضلات اليدين
ومن خلال هذا العرض المتواضع سنحاول تسليط الضوء على المدرسة الحتمية وأهم روادها وذلك في الفصل الأول في حين سنتدارس تأثير البيئة على الانسان في الفصل الثاني من خلال الوقوف على أهم العناصر الطبيعية المؤثرة في حياة الانسان، من مناخ ومظاهر السطح.
المحور الأول: الحتمية البيئية : المسار و الرواد .
1-1 الحتمية : عند الإغريق والرومان والعرب
إن تأثر الإنسان بظروف بيئته الطبيعية في أعماله وصفاته العقلية والجسدية موضوع قديم شغل كثير من الفلاسفة والكتاب الإغريق والرومان والعرب ومن بين ما قيل في هذا الموضوع "أن سكان الأقاليم الجبلية طوال يتصفون بالشجاعة والخلق بينما سكان السهول نحاف قصار القامة شقر البشرة")هيبوقراط لبقرن الخامس ق.م(، و "أن سكان البلاد الأوربية الباردة شجعان تنقصهم الهمة لذلك يخنعون ويخضعون للقوى. أما الإغريق فنظرا لأنهم يعيشون في إقليم يقع في مركز متوسط بين الشمال والجنوب فهم يجمعون بين فضائل أهل شمال أوربا وأهل آسيا")أرسطو القرن الثالث قبل الميلاد( .
1-2 الحتمية في العصور الوسطى
ولقد اختلفت كل هذه الأفكار خلال العصور الوسطى في أوربا المسيحية لاعتقاد الناس فيما جاء في الثوراة عن الخليقة. فاختلافات المناخ والتضاريس تباين البشر في الشكل والطباع من حكمة الله ولا نقاش في حكمة الله. وإذا كان هذا الرأي هو السائد في أوربا المسيحية فلم يكن كذلك في بلاد المسلمين فقد اهتم كثير من الكتاب والفلاسفة والجغرافيين المسلمين بدراسة العلاقة بين البيئة وصفات جسم الإنسان ومزاجه العقلي، ويمكن أن نطالع جانبا من الدراسة في مقدمة "ابن خلدون" حيث ربط هذا الأخير بين حوادث التاريخ والجغرافية محددا العوامل الجغرافية التي تؤدي إلى قيام الحضارة وارتقائها وتلك تؤدي إلى تدهورها. ولنسمع له وهو يتحدث عن " اختلاف أحوال المران في الخصب والجوع وما ينشأ عن ذلك من الآثار في أبدان البشر وأخلاقهم".
وقد اختص ابن خلدون في تفسير علاقة الإنسان ببيئته عن أثر المناخ في طبائع الشعوب وتأثير الهواء على ألوان البشر، وضرب مثلاً على ذلك بشعوب السودان والذي وصفهم بالخفة والطيش وكثرة الطرب والسبب في ذلك الحرارة التي تجعلهم أسرع فرحاً وسروراً وأكثر انبساطاً.
كما تحدث ابن خلدون عن الأقاليم الجغرافية وتأثيرها في حياة الإنسان حيث يرى أن هناك أقاليم معتدلة وأخرى غير معتدلة ، فالأقاليم التي تتميز بالاعتدال طبائع سكانها وألوانهم تتميز هي الأخرى بالاعتدال، بينما الأقاليم غير المعتدلة فسكانها متوحشون غير مستأنسين.
1-3 الحتمية في العصر الحديث:
لم تكن الحتمية القديمة أكثر صرامة من الحتمية التي ظهرت في العصر الحديث ونادى بها علماء الاجتماع من أمثال بكل Buckle (1862-1821)ولبلاي Le play )1882-1806( وديمولان وجغرافيون كريتر G.Ritter (1859-1779) وراتزل F.ratzel وتلميذته مس سمبل وهنا يمكن لنا أن نطرح سؤال كيف ظهرت الحتمية في العصر الحديث ولماذا استمرت؟.
1-4 العصر الحديت للحتمية : بداية عصر النهضة
بدأ العصر بنهضة علمية تهدف إلى إحياء التراث الإغريقي الروماني بل ونقل معارف الشرق العري. وكان من بين الموضاعات التي قدر لها أن تحيا من جديد أثر البيئة في جسم الإنسان وطباعه وتفكيره . ويعتبر جون بودان Bodin )1530-1596م( من كتاب عصر النهضة الذين اعتنقوا مبدأ الحتمية إذ ربط بين طبائع الناس والمناخ . وبحسب تصور هذا الأخير نجد أن يقول" فأهل المناطق الشمالية الباردة قادة مخاطرون بينما طبع أهل المناطق الجنوبية الحارة هو الأخذ بالثأر والمكر ولكن لهم قدرة على التمييز بين الحق والباطل. أما أهل المناطق المعتدلة فأكثر فطنة من أهل الشمال وأكثر نشاطا من أهل الجنوب ويختصون دون غيرهم بالقدرة على القيادة. ويستطرد بودان فيدعي أنه إذا ماعرفنا طبائع الناس فيمكن لنا أن نطابق بينها وبين شكل الحكومة أو "الجمهورية".
ولم يكن مونتسكيو الذي أتى بعد بودان بنحو قرن من الزمان أقل تحمسا لمبدأ الحتمية الجغرافية. فقد حاول أن يربط بين المناخ والتربة من ناحية طبائع الناس وصفاتهم من ناحية أخرى. ولم يكن المناخ في عرفه غير الحرارة كما اقتصر أنواع التربة عنده على الخصبة وغي الخصبة.
عل هذه الأسس حاول مونتيسكه أن يحدد صفات البشر وأخلاقهم لتكون –كما زعم- هداية حين يسن القوانين. مما قاله في هذا الشأن" أن سكان المناطق الباردة أكثر قوة وشجاعة وأقل ريبة ومكرا من سكان المناطق الحارة اللذين يتصفون بالضعف الجسمي والكل والسلبية". أما التربة فأثرها في رأيه أقل من أثر المناخ ولكن مع ذلك فأثرها واضح في شكل الحكومة. " فالملكيات توجد عادة في المناطق ذات التربة الخصبة بينما تقوم الجمهوريات في الأرض الفقيرة".
هذه الأقوال نظر إليها معتنقوا الفكر الإمكاني وعلى رأسهم فيدال دولابلاش جعل على حد قوله: بأنها أقوال شخصية متناقضة " تبدأ بالإنسان وتنتهي بالإنسان دون الاهتمام بالأرض التي يعيش فيه".
بيد أن ظهور همبولت )1769-1859( وريتر )1779-1859( رائدي الجغرافية الحديثة نمت بذور الحتمية في أرض جديدة.
فقد كان ريتر حريصا كل الحرص ألا ينزلق على تعميمات خاطئة على العلاقة بين الإنسان والبيئة ليس هذا فحسب بل أنه رغم اهتمامه بأثر البيئة في حياة الإنسان لم يقلل من أهمية الدور الذي يلعبه الإنسان على سطح الأرض، ولقد تفوق همبولت على ريتر في نظرته العلمية الخاصة إلى المشكلة فعلى الرغم من أنه كان يقول بأثر البيئة على الإنسان إلا أن الأدلة لم تكن كافية في نظره لخلق نظرية تضبط العلاقة بين الأرض والإنسان[1]
هذا الرأي المتزن لم يجد من يردده وسط تيار من الحتمية شديد وعلى الأخص بعد ظهور نظرية التطور التي أعلنها داروين في كتابه "أصل الأنواع "عام 1859. وكان أشد المتحمسين للحتمية بعض علماء الاجتماع والفلسفة الذين دخلوا إلى الجغرافية البشرية من الباب الخلفي، وأساءوا إليها إساءة كبيرة كما سبق أن ذكرناه. منهم فريدريك لبلاي وادمون ديمولنذان Edmond Demoulins. وتتلخص دعوى لبلاي LePlay في أن البيئة )المكان( تحدد نوع العمل وأن العمل يشكل ولو جزئيا نظام المجتمع. زمن الواضح أن هذه القاعدة الواهية إذا انطبقت على المجتمع الريفي لا تنطبق على المجتمع المدني فالعمل في المدن يعتمد على السكان ولا تحدده ظروف البيئة، وقد جاء ديمولان أكتر صراحة في حتميته من لبلاي فقد كتب مؤلفه: Comment la route crée le type socail.3vol (1901-3) ليثبت أن الطريق )وهو ليس فقط الأقاليم التي تخترقها الشعوب المهاجرة بل أيضا المكان التي تستقر فيه آخر الأمر( يشكل شخصيات الشعوب ونظمها الاجتماعية، ويقول في فاتحة كتابه:
"السكان المنتشرون على سطح الأرض متباينون أشد التباين ما الذي سبب هذا التباين؟ الجواب الذي يقدم عادة هو الجنس. ولكن الجنس لا يشرح شيئا لأنه يجب أن نكتشف ما الذي أوجد الجنس. إن العامل الأول والحاسم في تباين الشعوب وتباين الأجناس هو الطريق الذي تسلكه الشعوب إنه الطريق الذي خلق الجنس والطراز الاجتماعي معا".
بل أن ديمولان يؤكد في الجزء الثاني من كتابه أنه من كتابه أنه لو أعاد التاريخ نفسه فلن يتغير فيه شيء لأنه سيكون استجابة لنفس مقتضيات البيئة.
من هذه الأراء يتضح "أن ديمولان تجاهل كغيره من دعاة الحتمية عاملي الوراثة والسلالة كما أن آراءه الاجتماعية كانت كآراء أستاذه هنري دتولرفيل Henri de tourville سطحية إلى حد كبير، ذلك لأنه اتخذ أساس دراسته الأسرة دون الاهتمام بالعناصر الأكثر تعقيدا في النظام الاجتماعي[2].
بينما كان هؤلاء الاجتماعيون يتسللون إلى ميدان الجغرافية من طريق غير مشروع كانت الجغرافية البشرية تشكو من ضعف شديد كاد أن يفقدها ذاتها لو لم يقم راتزل F.Ratzel )1844-1904( يبعثها ووضع قواعدها. وكان لنظرية النشوء والارتقاء لداروين بالغ الأثر في تفكير راتزل فترى تطبيقاتها واضحة في كل أعماله. فالإنسان في رأيه " -كالنبات والحيوان- من نتاج البيئة وهو في نشاطاته وتطوره وآماله محكوم بها لا يستطيع منها فكاكا". أو كما تقول تلميذته ألين سمبل في كتابها " تأثيرات البيئة الجغرافية " بأن "الإنسان من نتاج سطح الأرض. ولا يعني هذا أنه مجرد ابن الأرض تراب من ترابها ولكن يعني أن الأرض رعته وغدته وهيأت له أعمالا ووجهت أفكاره وجابهته بصعاب قوت جسمه وشحذت تفكيره. وخلقت له مشاكل الملاحة والري ولكن في نفس الوقت همست له بحلول لها"[3]
هذا الإنسان السلبي المغلوب على أمره –في نظر هذه الجبرية الجغرافية- يعيش في قوانين أو ضوابط بيئية هي التي تتحكم في نشاطه وتوزيعاته على سطح الأرض ونظمه في الزمان والمكان معا. حياته بل وحياة الدولة أيضا لها رهينة، ليس للعزيمة ولا للمبادرة أية قيمة. كل شيء خاضع لعناصر الطبيعة وخاصة التربة فهي في تصور راتزل المتحكمة في اقدار الشعوب عمياء بل هي : " تدخل- كما تزعم سمبل E.Semple – في عظامه ولحمه وفي عقله وروحه في عقله وروحه... هي الدعامة التي تستند عليها آمال الرجال" .
ويعد كتاب "جغرافية الإنسان" Anthropogeoraphy من أشهر مؤلفات راتزل، حيث تناول بالدراسة في جزئيه الأول والثاني "1882، 1891" ثلاثة موضوعات رئيسية هي:
1- أنماط توزيع البشر على أساس العدد والسلالة والقومية واللغة والدين.
2- شرح وتفسير هذه التوزيعات بالرجوع إلى عناصر البيئة الطبيعية.
3- النتائج المباشرة للبيئة على الأفراد والمجتمع.
وكانت البيئة عنده طبيعية بحتة حيث أسهب في الحديث عن دور الأنهار والجبال والجزر والسواحل والصحاري في النشاط البشري.
وقد حاول راتزل في هذا الكتاب أن يضع حدودا للمعمور واللامعمور من حيث علاقتها بالطرق والمواقع الطبيعية ودرس العوامل التي تتحكم في توزيع الإنسان وتطوره حضاريا فذكر أن المناخ يحدد المراكز الكبرى للحضارة في المنطقة المعتدلة وأن الجبال تقوم كتخوم وملاجئ ولم يحدث إلا نادرا أن وقفت عقبة في سبيل الإنسان وأن المسطحات المائية أهم العقبات في طريق الرجل البدائي بيد أنها تعتبر أهم الطرق الطبيعية عندما يتقن الإنسان فن الملاحة أما الأنهار والمستنقعات فتقف في طريق التوسع وإن كانت المستنقعات تصلح كمناطق لجوء واحتماء مثلها في ذلك كمثل الغابات تعيش في وسطها جماعات سكانية مختلفة.
وقد أعقب راتزل كتابه هذا بكتاب آخر عن الجغرافيا السياسية ودرس فيه الدولة على ضوء علاقتها بالبيئة وأساسها الطبيعي -أي دراسة الدولة كما هي واقفة في المكان- "وهو الأساس الثابت لأماني الشعوب وآمالها وأمزجتها المتغيرة وهو الذي يحكم مصير الأمم حكما صارما أعمى" وقد اعتبر الدولة كائنا حيا في حركة دائمة يمتد في المكان حتى يبلغ حدوده الطبيعية ثم يتعداها إن لم يجد من جيرانه مقاومة قوية ترده إلى حدوده، والدوافع إلى التوسع تتمثل في كسب الأرض وغزوها لخلق دولة كبرى أما المجتمعات البشرية فتنمو داخل إطارات طبيعية تحتل مواضع معينة من سطح الأرض ومن هنا جاء ارتباط كل مجتمع بمنطقة معينة تتزايد حتما في مساحتها كلما زاد عدد سكانها وتظل تتسع حتى تصطدم بموانع طبيعية وبشرية ولقد كان هذا المبدأ التوسعي أساسا من أسس الجيوبوليتكا Geopolitics الألمانية التي ازدهرت بتشجيع من النازية في الثلاثينات من هذا القرن.
وقد تعرضت آراء راتزل في حتمية تأثير البيئة على الإنسان لمعارضة شديدة من قبل بعض علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا والتاريخ فقد أنكر دوركايم Dorkeim على راتزل دراسته لكل تأثيرات البيئة الطبيعية في الحياة الاجتماعية ولعل لوسيان فيفر Lucien Febvre هو أعنف من هاجم الحتميين في كتابه" La Terre Et L'evolution" والذي عالج فيه منهج علم الجغرافيا وفلسفتها وقدم الأدلة على سطحية الآراء الحتمية واستنتج فيفر من دراساته أنه لا توجد ضرورات وإنما توجد في كل مكان ممكنات والإنسان سيد هذه الممكنات وهو الذي يقضي باستعمالها، وهكذا ظهر مبدأ الإمكانية Possibilism في الجغرافيا.
وبالرغم من ذلك فإن الدور الذي قام به راتزل في علم الجغرافيا البشرية يضعه رائدا من روادها -ذلك لأنه شرح موضوعاتها على أساس أصولي لم يسبقه إليه أحد- كما كانت دراساته لأنماط الحياة أساسا اعتمد عليه من جاء بعده ومنهم فيدال دي لابلاش Vidal De
وتعتبر مس إلين سمبل E.Simple أهم تلاميذ راتزل الحتميين وقد أعادت كتابة الجغرافيا البشرية بشكل أكثر تنظيما في كتابها "مؤثرات البيئة الجغرافية، في سنة 1911".
وتؤكد "مس سمبل" أثر العوامل الجغرافية على الإنسان وتقسمها من حيث تأثيرها عليه إلى أقسام ثلاثة:
- عوامل جغرافية ذات تأثير مباشر على الإنسان مثل المناخ وأثره على لون الجلد والصفات الجسمانية.
- عوامل جغرافية ذات تأثير غير مباشر مثل الموقع الجغرافي وعامل القرب من مراكز الحضارة وعامل العزلة، وهذه تؤدي إلى التقدم الحضاري أو التأخر فالجهل.
- عوامل جغرافية تؤثر في النمو الاجتماعي والاقتصادي للإنسان، أي أثر الجغرافيا في مقومات الإنتاج الزراعي والمعدني في الإقليم ومن ثم درجة غناه أو فقره.
وإلى خلق مهن تعكس في الواقع الظروف الطبيعية في الأقاليم الساحلية.
المحور الثاني: العناصر الطبيعية وعلاقتها بالإنسان
إن الكثير من الباحثين أكدوا على حتمية تأثير القوى الطبيعية على نشاط الانسان بما في ذلك تأثير الموقع الجغرافي وشكل سطح الأرض وظروف المناخ وخصائصه. وسنرى ذلك فيما سيأتي من سطور لاحقة.
1. المناخ والجو وحتميتهما على الانسان
تعتبر عناصر المناخ من أهم ان لم تكن أهم الظاهرات الطبيعية التي تؤثر في حياة الإنسان، فهي قد تفرض حدودا على انتاج أرضه وتعوق حركته وتشل مواصلاته وتحول دون سكناه للمناطق الباردة بأعداد كبيرة. " فيذكر علماء المناخ أن مدة سطوع الشمس تضع حدودا على ما يزرعه الإنسان، فهي تفرض قيودا على عدد المحاصيل التي يمكن زراعتها بنجاح وكذلك تؤثر في غلة أرضه. وعليه فهذا العامل يجب أن يدخل في الاعتبار عند تقدير قيمة الأرض الزراعية في العروض العليا التي يطول فيها غياب الشمس. أما الحرارة فأثرها لا يقل خطورة عن أثر أشعة الشمس ففصل النمو مرتبط بنظام الحرارة، ومعنى ذلك أن الحرارة تضع قيودا على أنواع النبات التي تزرع وكذلك تحدد مواطنها في جهات الأرض المختلفة "[4].
ففي حياتنا اليومية نرى أننا نشكل أنفسنا تبعا لتغيرات الجو بلا تفكير أو بذل أي مجهود، ونرى سكان الأقاليم الباردة يرتدون معاطفهم في فصول مخصوصة من السنة ولا ريب أن هذا نتيجة مباشرة لحالة الجو؛ وفي بلاد كإنجلترا حيث الجو دائم التقلب نرى كل إنسان يفكر كل صباح فيما إذا كان من الضروري حمل مظلته أو ارتداء معطفه لوقايته من المطر عند خروجه من البيت، ويعد جسد الإنسان ميزانا حساسا للحرارة إلى درجة تكفي لتقرير الوقت الذي يحتاج فيه إلى التدفئة في أيام الخريف، سواء أكان ذلك بالاصطلاء بالنار أم بإدارة جهاز التدفئة في المنزل، ومن أثر الحالة المناخية ذلك العمل السنوي الذي تهتم له ربة البيت في انجلترا ألا وهو ما يسمونه التنظيف الربيعي، فتقوم به كل أسرة متى أصبحت في غنى عن نار الشتاء وفحمها وما جلبته لها من قذارة في البيت[5].
وتجدر الإشارة إلى أن نظام معيشة الإنسان يتغير ويتأثر بالحالة المناخية حيث إذا ذهبنا إلى الجهات الاستوائية يجب أن نستبدل ملابسنا دون تفكير، وبالتالي إذا قضينا ردحا من حياتنا في تلك الأصقاع وجب أن نغير نظام معيشتنا وطعامنا إلى حد كبير ... وها نحن نلاحظ الفرق الكبير بين شكل سطوح المنازل في الجهات الباردة وبينه في إقليم البحر الأبيض المتوسط والجهات المدارية، ففي الأول تكون السطوح مائلة لضرورة انحدار الجليد عنها إذ ما سقط في السماء، وفي الأخيرة حيث المناخ جاف نسبيا تبنى السقوف مسطحة، وفي كثير من الأحوال تكون مائلة نحو الوسط ويقام تحتها خزان تملؤه مياه الامطار وهي لا شك ذات قيمة عظيمة للسكان. لكننا نجد الإنسان في المناطق التي تشهد غزارة في التساقطات يجتهد في إزالته عن سقف منزله، أما اذا كان المطر قليلا فقد يحرص على جمعه بكل عناية حتى يستخدمه وقت الحاجة. وبمثل ذلك نرى أن شدة الحرارة في إيطاليا تنعكس أثارها بشكل بارز في بناء المنازل ذات الفسيحة المظللة وعلى عكس ذلك تماما نرى أن المهندسين في بعض أنحاء انجلترا حيث يتلهف الإنسان على ضوء الشمس قد اجتهدوا في تصميم منازل على طراز خاص بحيث تتمتع بأكبر قسط من أشعة الشمس[6].
1-1 المناخ والبناء الجسماني :
احتلت مسألة تأثير المناخ على البناء الجسماني جزءا كبيرا من تفكير العلماء منذ زمن قديم. فقد كانوا يعتبرون أن العوامل المناخية ذات أثر مباشر على الجسم الإنساني، وذلك بناءا على ما لاحظوه على الأجسام الحية جميعا. من حيوانات ونبات. ذلك التأثير يكون تحت مؤثراث خاصة تظهر استجابات عضوية خاصة. "وقد جعل داروين من ذلك أحد ناصر الانتخاب الطبيعية.. و بنى عليها لا مارك نظرية التطور : وأرجع بعض الفلاسفة مثل هوربرت سبنسر وأوجست كونت أهمية كبرى وفي أعقابهم جميعا حشد كبير من العلماء الأنتروبولوجيون أضافوا مقدار كبيرا من الملاحظات والتأكيدات التفصيلية. وقد استعملت من وقت طويل اعتبارات خاصة بأن مختلف أنواع المناخ استعملت أحيانا وأسيء استعمالها أحيانا أخرى.
فالحرارة تثير الأعصاب وتهلك القوى وتجعل التراخي يدب في جسم الإنسان، والبرد يجعله أكثر بطئا وهدوءا ولكنه أرزن وأكثر تركيزا، تلك أمور عامة استخدمت الآلاف المرات منذ بودان. وكذلك رفضت آلاف المرات بحقائق أولية جدا. ولكن علمائنا كانوا يطمحون إلى ماهو أعمق من ذلك وأشمل"[7].
إلى جانب تحليل جون بودان ، نذكر كذلك ، ما جاء في مقدمة ابن خلدون حول ثأثير المناخ على البناء الجسماني للإنسان، ومما قاله ابن خلدون نذكر :"...قد ينشأ أن المعمور في هذا المنكشف من الأرض إنما هو وسطه لإفراطه الحر في الجنوب منه والبرد في الشمال[...] ولما كان السودان ساكنين في الإقليم الحار واستولى الحر على أمزجتهم وفي أصل تكوينهم كان في أرواحهم من الحرارة على نسبة أبدانهم وإقليمهم فتكون أسرع فرحا وسرورا وأكثر انبساطا[...] والأقاليم المعتدلة ليس كلها يوجد بها الخصب، وتجد الفاقدين للحبوب من أهل القفار أحسن حالا في جسدهم وأخلاقهم من أهل التلول المنغمسين في العيش فألوانهم أصفى وأبدانهم أنقى وأشكالهم أتم وأحسن وأخلاقهم أبعد عن الانحراف وأذهانهم أثقب في المعارف والادراكات"[8].
بالإضافة إلى كل ما ذكر، يربط بودان بين لون الجلد لبني الإنسان بالعوامل المناخية. حيث يقول: "على أنه توجد مجموعة من الشعوب جلودها فاتحة نسبيا في المناطق الحارة مثل الهنود الحمر ، كما أنه توجد شعوب سوداء نسبيا في المناطق المتجمدة الشمالية مثل هذه يقول عنها بودان. أنها أسمرت من البرد القارص مثل اللاب والإسكيمو".[9]
ونجد مونتيسكيه فد أفرد للمناخ في كتابه روح القوانين مساحة مهمة بالنظر إلى ما خصصه إلى العوامل الطبيعية الأخرى ،حيث خصص له أربعة كتب ليبين فيها العلاقة بين المناخ والقانون بصفة عامة ثم بقوانين الاستعباد المدني والاسترقاق وأخيرا الاستعباد السياسي[10].
كما أن أرسطو في الكتاب السابع من السياسة يقر بأن سكان الأقاليم الباردة شجعان حاربوا في سبيل الحرية أما الأسيويون فتعوزهم الطاقة لذلك هيئوا للسخرة والاستعباد[11].ومن بين ما قاله كذلك أرسطو :
-"-سكان المناطق الباردة شجعان ولكن تنقصهم الهمة لذلك يخضعون للقوى؛
- سكان المناطق الاسيوية يتميزون بالحكمة و العمل لكن تنقصهم الشجاعة لذلك فهم يرحبون بحياة الذل والعبودية؛
- سكان المناطق الحارة يتميزون بالكسل نظرا لطبيعة المناخ."
1-2 المناخ والنبات وتأثيرهما على الانسان
و إذا كان المناخ يؤثر على الإنسان فإن تأثير هذا الأخير واضح جدا في الحالة النباتية ويمكن مشاهدة ذلك في "الأنحاء المختلفة من قطر صغير المساحة كابرطانيا العظمى، فلا ينتظر الانسان مثلا أن يرى زراعة القمح منتشرة في شمال اسكتلاندا حيث المناخ بارد بدرجة لا تسمح بنضجه، ولا ينتظر انتشار زراعة في بلد كإرلندا حيث الجو شديد الرطوبة. ولكن إذا ما أراد الانسان أن يرى تلك الغلة نامية زاهرة فليولي وجهه شطر إيست انجليا. ولنضرب مثلا أخر بولايات نيو انجلد (و . م.أ) فهل ينتظر الانسان أن يرى بها مزارع القطن تتمتع بحرارة أخر الصيف؟ كلا ولكن في الوقت نفسه نرى أن هذا هو المحصول السنوي الذي يتمتع به سكان الولايات الجنوبية. وكلنا يعلم أن الشاي والقهوة والكاكاو نتناولها كل صباح على المائدة إنما تأتي إلينا من بلاد بعيدة ولكن القليل منا من يفكر في هذا الأمر أو يدرك تأثير المناخ في ذلك"[12]. هذه الأمثلة الكثيرة لا تترك مجالا للشك في كون المناخ من أهم العوامل الجغرافيا التي تؤثر في توزيع تشكيلات نباتية في منطقة دون أخرى، وإذا كنا نعلم على أن الاستقرار البشري قائم بالدرجة الأولى على توفر الغذاء الذي لا وجود له في ظل غياب النبات المرتبط بدوره بعنصر الماء يجعلنا نقر بوجود علاقة قوية بين النبات والانسان، إذ كانت التركزات السكنية الكبرى فيما مضى تتركز أساس في المناطق التي توفر لهم الغذاء والمراعي عكس المناطق التي تنعدم فيها هذه الشروط كانت شبه خالية من السكان كما هو الشأن بالنسبة للصحراء الكبرى والمناطق القطبية القليلة السكان.
2 مظاهر السطح وعلاقتها بالإنسان
تساعد التضاريس في حدوث مجموع من الظواهر الطبيعية الهامة كحركة الرياح والتيارات المائية وحركة الجو العامة... وتؤثر هذه التضاريس سلبا أو إيجابا في حياة الإنسان، فالمناطق الجبلية الوعرة تختلف عن مناطق السهول المنبسطة وضفاف الأنهار وسواحل البحار تختلف عن المواقع الداخلية أو الصحراوية. وشكل التضاريس قد يكون مناسبا وملائما لقيام الزراعة أو الصناعة أو العمران، وبالتالي يساهم في تطور الانسان وتوطيد علاقته بالبيئة واستقرار هذه العلاقة أو العكس أي قد يكون التأثير سلبيا ويدفع بالناس إلى الرضوخ والهجرة...
ومن الأمثلة على تأثير الأوضاع البيئية والخصائص الجيومورفولوجية في حياة الانسان، "ما يورده الكثير من الاختصاصيين إلى أن أسباب فتوحات العرب وهجراتهم المتتابعة من شبه الجزيرة العربية إلى مناطق شاسعة من العالم لم تكن مرتبطة بالتطور الاجتماعي والثقافي للقبائل العربية فحسب، بل ارتبطت أيضا بالخصائص الجغرافية لوطنهم وبالتغيرات المناخية والبيئية التي تعرضت لها أراضي شبه الجزيرة العربية. وعلى نفس النحو فيما يخص قارة أوروبا وتأثير أشكال التضاريس فيها في حياة وتطور شعوبها، حيث كتب المؤرخ الروسي "كلوتشفسكي" ثمة خاصيتان جغرافيتان تميزان قارة أوروبا عن قارات العالم الأخرى وعن قارة أسيا بشكل خاص، وهما تنوع أشكال تضاريس الأرض والخطوط المتعرجة بشكل خارق للشواطئ البحرية"[13].
2-1 التضاريس عامل حاسم في توزيع الكثافات السكانية
تشكل التضاريس وحدات ثابتة يصعب على الانسان تغييرها جوهريا ما عدا إدخال بعض التعديلات في بعض الأحيان، فمثلا ليس لأية قوة بشرية القدرة على زحزحة الكتل الجبلية من مكانها لتحل محلها تضاريس سهلية، كما أنها لا يمكنها تحويل السهول المستوية لجبال وعرة. ومن هنا يمكن القول على أن تأثير التضاريس في حياة الانسان تفوق تأثير هذا الأخير فيها، ويظهر هذا التأثير في توزيع الكثافات السكانية "فإذا أخذنا على سبيل المثال دولة سويسرا وقمنا بمقارنة لإقليمين مختلفين من حيث طبوغرافية السطح، كشمال ويلز وهو إقليم جبلي يشتغل أهله بالزراعة وإقليم إيست أنجليا تلك الأراضي السهلية المنخفضة يشتغل أهلها أيضا بالزراعة. فبينما نرى الاقليم الثاني مزدحما بالسكان نجد الأول يقل عنه كثيرا في ذلك، ولا شك أن العامل الرئيسي في هذا هو نظام التضاريس. وهناك أمثلة أخرى لذلك في جميع أنحاء العالم ففي الصين أشد بلاد العالم ازدحاما بالسكان نرى أن الأراضي السهلية والوديان تموج بسكانها الكثيرين، بينما الجهات الجبلية التي تتخللها وعورة المسالك تكاد تكون خالية من السكان"[14].
ولكن رغم هذا الاكراه الذي يواجه الانسان ويحدد طرق تعامله مع كل مجال على حدة، فإن هذا الأخير حاول جاهدا التغلب على هذا العائق والتأقلم مع جل الأوساط سواء أكانت ذات تضاريس منبسطة أو متضرسة. لكن تأثير الانسان في طبيعة السطح تظل محدودة جدا "حيث يمكنه التغلب إلى حد ما على العوائق التي تعترضه كالجبال مثلا وذلك بعمل نفق تجتازها السكك الحديدية، ويمكنه على الأخص أن يغير كثيرا من سطح الأرض داخل المدن. ولكن مهما كان عمله ومجهوده فأثره ضعيف على وجه العموم؛ وها نحن نرى حتى اليوم تلا قائما في قلب مدينة لندن لم تمحه تدخلات الانسان {...} ومن أطهر ما قام به الانسان بعمله تجفيف الأراضي وإعدادها للزراعة، حيث قام الهولنديون بتجفيف الجزء الأكبر من خليج زيدرزي الضحل. ولكن رغما عن جهود الانسان وتأثيره فهو لا يمكنه أن يقلل من الأهمية العظمى للتضاريس أو يمحو أثرها"[15]، أي أنه يكون ملزما عليه العيش وفق الظروف الطبيعية والتأقلم معها ومسايرتها في خصائصها، التي لاشك ستجعل منه جزء من مكوناتها وبالتالي يمكننا أن نلصقه برأي سمبل التي تعتبر أن "الرجل هو نتاج سطح الأرض وهذا لا يعني انه مجرد طفل الأرض، تراب من ترابها، ولكن الأرض تبنته وغذته ووضعت له الأعمال ووجهت أفكاره وواجهته بالمصاعب التي قوت جسده وشحذت تفكيره، وقدمت له مشكلات الملاحة والري وفي نفس الوقت همست له مشيرة بالحلول، إنها تتخلل عظامه وأنسجته وعقله وروحه وعلى الجبل أعطته عضلات حديدية في سيقانه ليتسلق المنحدرات، وفي المناطق الساحلية جعلت هذه العضلات رخوة ضعيفة وأبدلته بذلك صدرا قويا وذراعا ليمسك به المجداف. وفي وادي النهر ربطته بالتربة الخصبة وجعلت تفكيره يرتبط بمزرعته"[16]
وتجدر الإشارة إلى أن علماء الإغريق عملوا على إبراز مدى تأثير التضاريس على الإنسان. ومن أبرز هؤلاء العلماء نجد هيبو قراط الذي عمل على توضيح المفارقات التي لاحظها بين سكان الأقاليم الجبلية المعرضين للأمطار والرياح والذين يتصفون بالنحافة والشقرة وبأنهم ميالون للسيادة.
2-2 المناطق الجبلية : مثال على تأثير التضاريس في الاستقرار البشري
يتأثر نشاط الإنسان في المناطق الجبلية بالانحدار أكثر من عامل الارتفاع، ذلك لكون الأراضي الشديدة الانحدار التي تتعذر فيها الحركة ولا تصلح للاستغلال البشري (خاصة الزراعة) واسعة الانتشار. فارتفاع المنحدر فيه مقاومة للجاذبية لذا فهو عمل شاق ومرهق بالنسبة للإنسان والحيوان فضلا على أنه باهظ التكاليف بالنسبة لوسائل المواصلات البرية. نظرا لأن الطاقة تتضاعف والآلات تستهلك والمسافة تطول بالانحناء والالتواء، وتفاديا لذلك فإن طرق المواصلات الحديثة تعتمد على الوديان في غالب الأحيان.
أما فيما يخص أثر الوعورة والتضرس على التربة فيترجم فقرا وانهيارا وتشتتا لها، وهي صفات من شأنها التقليل من أهمية الزراعة وتجعلها بقعية أكثر منها متصلة حقلية وتجعل الرعي هو النشاط السائد خاصة في المستويات العليا. بل إن المراعي الجبلية العالية نفسها لا تتحمل إلا أعداد قليلة من الحيوانات لعدم كفاية الأعشاب في وحدة مساحية معينة مقارنة بمثلها في الهضاب والسهول. وهكذا فإن وقوف الجبال كعقبة أمام انتشار الإنسان وتكاثره لا تبين بشكل ظاهر إلا في الجبال العليا في العروض الوسطى والعليا، أما الجبال العالية في العروض الدنيا باستثناء جبال أسيا التي فقدت تربتها والجبال القدسية غير المرتفعة في العروض الوسطى فهي تضاريس موجبة تجدب السكان أكثر مما تطردهم. وبالرغم من أن الكثافة كمقياس ليس لها مدلول واقعي بالنسبة لسكان الجبال نظرا لتشتتهم وبعثرتهم فإن المقارنة بين الكثافة السكانية في السهول والجبال في العروض الوسطى والعليا لا تخلوا من معنى، فعلى سبيل المثال تمثل الخرائط الاقليمية لتوزيع السكان أنه بينما يحتشد السكان في سهل البو (300 ن/كلم2) يقلون بشكل واضح في جبال الألب (أقل من ستة أفراد في الكيلومتر المربع). ويعيش أغلب سكان اسكتلندا في الوادي الأوسط والسهول الساحلية الشرقية ويندرون في المرتفعات الداخلية. والجبال ليست في أغلب الأحوال وسطا ديموغرافيا متجانسا فالاختلافات المحلية واضحة بين المقدمات والسفوح والوديان من ناحية أخرى[17].
2-3 التربة ومسألة التأثير المباشر على التطور البشري
من المعروف ولاشك فيه أن الوراثة أحد العوامل المؤثرة في التطور البشري ولكل العوامل الأخرى عدا ذلك مستقاة من البيئة. وهذه تباشر قوتها على الأفراد والجماعات وهذه ليست آثار فعالة في التغيرات الجسمانية. بل أنه أيضا تحدد اتجاه الآراء الأخلاقية والسياسية وتحقيقها وهذا هو أساس التاريخ المتين.
وقد ورد في الفصل الأول من الكتاب الخامس من سلسلة الكتب الستة للجمهورية Six Livres de
وعلى نهج بودان نجد مونتسيكيه في كتابه روح القوانين يقول "أمام الإنسان قوتان كبيرتان لا مفر منهما منه التربة والمناخ، إلا أن مونسكيه لم يدرسهما دراسة تفصيلية تنفصل إحداهم عن الأخرى بل اكتفى بالإشارة إليهم"[18].
وفي الكتاب الثامن عشر من روح القوانين درس مونتسكيه " أثر التربة في النظم البيئية القضائية للإنسان دراسة سطحية مختصرة جدا.لم يتعمق في تحليله كثيرا، حيث أنه، وحسب لوسيان فيبر "لم يفهم التربة ولم يهتم بأوجهها إلا ما سماه طبيعة الأرض ولكنه لا يتقدم بأي فكرة جيولوجية أو طبوغرافية محددة التعبير ،فالعلم في وقته لم يعترف بهذا إلا ناذرا، ففكرته نفعية صرفة وأكثر من ذلك فهي غامضة، فالأرض في نظره تتصف بإحدى الصفتين الخصب أو القحولة فإن جذب الأرض في اتيكا أنشأ حكومة شعبية، وخصبها ) أي الأرض( في لاكيديمون أنشأ حكومة أرستقراطية."[19]وهذا من بين الأمثلة عن الاستنتاجات البسيطة التي خلص إليها مونتسيكه في تبيان تأثير النظم البيئية المتجسدة في التربة على الإنسان.
حيث أكد على أن من نتائج قحولة الأرض شحذ أذهان السكان،اتزانهم،تجمعهم في المدن، ولتبيان هذه العلاقة يعطي مثلا في بعض دول " ولديك في أثينا قديما ونرمبرج في القرن السادس عشر تعج بأبدع الفنانين كذلك بمدينة ليموج ،جنوا[...] فالأعداء لايطمعون في أرض قاحلة ولهذا يعيش السكان في آمان يتكاثرون وعليهم أن يشتغلوا بالتجارة أو العمل"[20].
3- الموقع الفلكي ودوره في الاستقرار البشري
إن الموقع الفلكي (الموقع من خطوط الطول ودوائر العرض) يحدد زاوية سقوط الأشعة الشمسية الواردة إلى سطح الأرض وكميتها، وبالتالي يحدد الكثير من خصائص المناخ المؤثرة في الانسان وظروف حياته، كما أن الموقع الجغرافي يؤثر في الانسان بشكل مختلف سلبا أو إيجابيا وذلك بحسب خصائص هذا الموقع استراتيجي أو منعزل ... فتوجد مواقع جغرافية تساعد الانسان على التطور والتواصل مع الشعوب والحضارات العالمية الأخرى، وتوجد مواقع داخلية منعزلة تعيق مثل هذا التطور والتواصل وتؤثر سلبا في الانسان وحياته، كما أن الوسط الجغرافي شرط ضروري لتطور أي شعب من الشعوب، وهو الميدان الذي تجري فيه عمليات التطور هذه. ويوجد كثير من الدلائل على تأثير الوسط الجغرافي في حياة الشعوب، هذه الدلائل التي يمكن أن تظهر في مختلف ميادين الثقافة السلالية لهذه الشعوب ابتداء من أدوات العمل وانتهاء بمسميات الشعوب نفسها، كما أن مواقع الحدود الطبيعية لأي شعب من الشعوب كالأنهار أو البحار والجبال تلعب دورا كبيرا في حياة الشعوب وتطورها[21]..
خلاصة:
وعلى وجه العموم فإن سيطرة النظرية الحتمية على التفكير حالت دون تفسير الظاهرة الجغرافية التفسير الوافي الدقيق، فانتهت إلى أحكام سريعة فيها من البساطة والتكرار الكثير، ورغم ما أحاط بنظرية الحتم البيئي من تفنيد ونقد خلال العصر الحديث فإن هذا لا يعني انحسار هذا الفكر تمامًا أو عدم وجود منظرين لها، فلو كان الأمر كذلك لما ظهر لنا فرع جديد من فروع الجغرافيا الاجتماعية يعرف بجغرافية الجريمة Geography of Crime الذي يحاول الربط بين نوعيات ومستويات الجرائم والظروف البيئية لمرتكبيها على أساس اختلاف الظروف الجغرافية، إذن فلم يزل هناك قطاع من علماء الجغرافيا يدور في فلك الفكر الحتمي، الذي قد يؤدي لأحكام عنصرية على جنس أو شعب، حتى ولو لم يعترف الجغرافيون بذلك. ومع ذلك كله، ورغم الانتقادات اللاذعة التي وجهت للتيار الحتمي[22] (خاصة من طرف الإمكانيين)، إلا انه لا يمكن أن نغفل تأثير النظم البيئة على الإنسان خاصة فيما يتعلق بالظواهر المناخية الشاذة أو الاستثنائية التي يظهر تأثير بشكل جلي على مصير الشعوب ويتعلق الأمر بالزلازل والبراكين والفيضانات، هذه الظواهر رغم التطور التكنولوجي والعلمي الذي يعرفه العالم حاليا فإنه لم يستطع مقاومتها والحد من تأثيراتها، وخير ذليل على ذلك، الأعاصير المدارية التي تعصف بالولايات المتحدة والزلازل الفجائية التي تعرفها اليابان... هاتان الدولتان لم يشفع لهما تقدمهما الاقتصادي والتكنولوجي في وقف هاتان القوتان الطبيعيتان وكبحهما ويظهر ذلك من خلال الخسائر المادية والبشرية التي تحدثها هاتان القوتان.
المراجع:
محمود سيف (محمود)،1998، "أسس البحث الجغرافي" دار المعرفة الجامعية الأزاريطة ، مصر.200ص.
[1] العدوي (أحمد محمد) ل. ددلي (ستامب)، "الأراء الحديثة في علم الجغرافيا"، سلسلة المعارف العامة، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر.
"[1] )وهيبة محمد (عبد الفتاح،1980،"جغرافية الإنسان"، دار النهضة للطباعة والنشر ،بيروت ، لبنان . 564 .
[1] فيفر لوسيان (بدون تاريخ)، دار المطبوعات.
[1] ابن خلدون عبد الرحمان(1908 )"لمقدمة" دار النهضة مصر، ص 78.
محمد محمدين (محمد)، "الجغرافيا والجغرافيون بين الزمان والمكان"، الطبعة الثانية 1996، دار الخريجي للنشر والتوزيع، الرياض.
[1] محمود سليمان (محمد) "الجغرافي والبيئة" منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب، وزارة الثقافة-دمشق.
لائحة المواضيع
تقديم عام:........................... ... ..................... ..................................1
المحور الأول: الحتمية البيئية : المسار و الرواد .. .........................................2
1-1 الحتمية : عند الإغريق والرومان والعرب........... ...............................2
1-2 الحتمية في العصور الوسطى............ .................... .......................2
1-3 الحتمية في العصر الحديث: ............ .......... ..................................3
1-4 العصر الحديت للحتمية : بداية عصر النهضة.......................................3
الفصل الثاني:العناصر الطبيعية وعلاقتها بالإنسان......... ..................................8
1- المناخ والجو وحتميتهما على الانسان..................... .............................8
1-1 المناخ والبناء الجسماني......... ................................................9
1-2 المناخ والنبات وتأثيرهما على الانسان.......... .............................11
2- مظاهر السطح وعلاقتها بالإنسان.................... ...................................12
2-1 التضاريس عامل حاسم في توزيع الكثافات السكانية........ ...............................12
2-2 المناطق الجبلية : مثال على تأثير التضاريس في الاستقرار البشري ..............14
2-3 التربة ومسألة التأثير المباشر على التطور البشري.................................15
3- الموقع الفلكي ودوره في الاستقرار البشري................ ............................16
خلاصة: ......................................... .............. ..............................17
لائحة المراجع..................... ...................... . ........................................19
لائحة المواضيع................... ................. ........................ ......................20
---------------------------------------------------------------------------------------
[1] جغرافية الإنسان ص 13.
[3] محمود سيف (محمود)،1998، "أسس البحث الجغرافي" دار المعرفة الجامعية الأزاريطة ، مصر،ص12، 200ص.
"[4] )وهيبة محمد (عبد الفتاح،1980،"جغرافية الإنسان"، دار النهضة للطباعة والنشر ،بيروت ، لبنان . 564 ص. ص،99-100.
[5] العدوي (أحمد محمد) ل. ددلي (ستامب)، "الأراء الحديثة في علم الجغرافيا"، سلسلة المعارف العامة، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، ص 33.
[6] نفس المرجع السابق ص 35...
[7] فيفر لوسيان (بدون تاريخ)، دار المطبوعات، ص 146.
[9] فيفر لوسيان (بدون تاريخ)، مرجع سابق.ص 147
[10] فيفر لوسيان (بدون تاريخ)، مرجع سابق.ص140
[11] فيفر لوسيان (بدون تاريخ)، مرجع سابق.ص141
[12] العدوي (أحمد محمد) ل. ددلي (ستامب)، "الأراء الحديثة في علم الجغرافيا"، سلسلة المعارف العامة، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، ص 36
محمد محمدين (محمد)، "الجغرافيا والجغرافيون بين الزمان والمكان"، الطبعة الثانية 1996، دار الخريجي للنشر والتوزيع، الرياض،ص
[13] محمود سليمان (محمد) "الجغرافي والبيئة" منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب، وزارة الثقافة-دمشق، ص 32
[14] العدوي (أحمد محمد) ل. ددلي (ستامب)، "الأراء الحديثة في علم الجغرافيا"، سلسلة المعارف العامة، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، ص 22
[15] نفس المرجع السابق 27.
[16] محمد محمدين (محمد)، "الجغرافيا والجغرافيون بين الزمان والمكان"، الطبعة الثانية 1996، دار الخريجي للنشر والتوزيع، الرياض، ص 378.
[17] وهيبة محمد (عبد الفتاح،1980، مرجع سابق، ص165 – 166.
[18]فيفر لوسيان (بدون تاريخ)، مرجع سابق.ص 139.
[19]فيفر لوسيان (بدون تاريخ)، مرجع سابق.ص 138.
[20]فيفر لوسيان (بدون تاريخ)، مرجع سابق.ص139.
[21] محمود سليمان (محمد) "الجغرافي والبيئة" منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب، وزارة الثقافة-دمشق، ص 32
[22]من أهم الانتقادات التي وجهت للنظرية الحتمية نذكر:
- عدم المنطقية .. صحيح أن البيئة تعد إحدى العوامل الهامة التي تؤثر على الإنسان لكنها ليست العامل الوحيد أو المنفرد فهناك العديد منها وليس من المنطقي أن نقر بحتمية أي عامل من العوامل التي يخضع لها الإنسان في حياته سواء أكانت عوامل اجتماعية، تاريخية، أو حتى بيئية بمفهومها الأعم.
- التطور التكنولوجي.. يلعب التطور التكنولوجي دوراً أساسياً في الحد من العوائق البيئية فمثلاً بعض البلدان التي يفرض موقعها عليها العزلة مثل اليابان فبفضل التقدم التكنولوجي الهائل الذي وصلت إليه أصبحت غير معزولة بتقدم وسائل المواصلات والاتصال.
- أهمية دور التاريخ والحضارة.. يحد من سيطرة البيئة على الإنسان حيث توجد بعض الدول تتشابه في ظروفها البيئية ولكن تاريخها وحضاراتها لهما دور أساسي يختلف تماماً عن الدول المتشابهة معها في ظروفها البيئية.
إرسال تعليق