المحور الأول : مفهوم المجال الجغرافي عند المختصون
1-
تعريف المجال
الجغرافي
يعد المجال الجغرافي أو الحيّز
الجغرافي الذي يقوم - بمفهومه الواسع - على فكرة الاحتواء، أي إنه محتوى الأشخاص
والأشياء. والحيّز هو المكان، والمكان هو «الوعاء الفكري للمحتوى المكاني» ، وهذا
الإطار الفكري يمَكن من وصف الأشياء وتوزعها في المكان. والمجال الجغرافي ليس إلا مجالا من المجالات الممكنة.
فهو علاقة الأشياء المجودة على سطح الأرض .
وعلى الرغم من أن المكان مفهوم مجرد لا وجود له في
الحقيقة، فإننا لا نستطيع أن ندرك الأشياء إلا متحيزة في المكان ومتعاقبة في
الزمان؛ لأن كل ظاهرة تحدث في المكان تحدث أيضاً في الزمان.
يقول "Olivier DOLLFUS" معرفا المجال الجغرافي
"قبل تعريف المجال الجغرافي لابد من دراسة خصائصه، فالمجال الجغرافي أولا موطَّن ومختلف . "فالمشهد مثلا
لا نجده مماثلا لأخر"، ونفس الشيء بالنسبة “للمجال الجغرافي” فهو ذلك المجال
المتغير الذي يصف ويوضح الوجه المتغير باستمرار للأرض، والوصف هنا ضروري للشرح.
لكن من خلال ملاحظة المجال(المشهد)، وتحليل موروثات الماضي التي تقودنا إلى دراسة
التفاعلات، وهذه الأخيرة تعتبر من الأسس التي تنبني وتسير عليها المنهجية
الجغرافية"[1]
أما R. Brunet فيحدد المجال الجغرافي" أنه نطاق الأراضي المستخدمة والمبني من قبل
المجتمعات البشرية لاستمراريتها، ويضيف أن المجال الجغرافي لا ينحصر فقط في الطعام والمأوى بل أكثر تعقيدا حيث هو نتاج
لنشاطات وأعمال بشرية لا تنتهي، فهو أيضا مجال مليء بالصراعات... إن المجال الجغرافي
إذن عبارة عن حامل support
–comportent مجموعة من الفاعلين( الأفراد
والأسر والجماعات والشركات والسلطات المحلية) الذين يدخلون في إطار صراعات ومصالح،
وهذا ما يؤدي إلى بناء المجال".
والمجال الجغرافي مجال لمجموعة
من الأماكن والعلاقات والتفاعلات، بحيث لا وجود لمجال بدون تفاعلات مع مجالات،
فهذه الأخيرة موجودة فقط في ترابطها مع مناطق أخرى من العالم[2]
إن مفهوم المجال الجغرافي أداة
وضعها الجغرافيون لصورنة خصائص المجال الأرضي صورنة علمية. وتتلخص هذه الخصائص في
كونه معطىً، منتجاً، ومدركاً معاشاً. فهو كمعطى له بعدان: فزيقي،وبيئ[3].
إلى جانب هذا فالمجال
الجغرافي مفهوم يتسم بطابعه الفضفاض ويمكن تعريفه من زوايا متعددة :
1-1 المجال الطبيعي
وهو مجال طبيعي بما يحتوي عليه من ظواهر
طبيعية متنوعة ومتفاعلة، ويعرفه الجيومورفولوجي الفرنسيJ.Tricart قائلا " إن المجال كمفهوم
طبيعي هو كل الغلاف الحيوي للأرض وهو نتاج علاقات التفاعل بين كل أغلفة الأرض بما
في ذلك من غلاف صخري، غلاف هوائي، غلاف مائي، والمجال الطبيعي هو القاعدة الأساس
التي عليها تنبني المجالات الأخرى"
1-2 المجال الجغرافي
كمنتوج اجتماعي ثقافي
يمكن اعتباره من نتاج المجتمعات البشرية،
وبالتالي فهو يعكس العلاقات الاجتماعية السائدة من قيم وعادات وأفكار وأشكال
التنظيم الاجتماعي، وأشكال استغلال المجال، وهو كذلك مجال يعكس تاريخ المجتمع
باعتباره أولا ميدانا للأحداث التاريخية، ثم ثانيا لما يحمله من آثار ومعالم
تراثية . لقد أخذ الجغرافيون عن علم الاجتماع مفهوم المجال الاجتماعي الذي هو
حصيلة المجال الحيوي الذي يجمع، إلى جانب العناصر الفيزيقية( المكان الذي يوجد فيه
الشخص وأثاثه وترتيب الأثاث، وأوضاعه...)؛ المجال الاجتماعي(أي البيئة والأشخاص الذين
نتعامل معهم، علاقتنا بهم...)[4] .
1-3 المجال الجغرافي:
مجال معاش ومدرك
تَمثل المجال
الجغرافي كمجال معاش ومدرك يختلف حسب الأفراد والجماعات،فلكل فرد تصور وتمثل دهني
وإدراك حسي خاص للمجال الذي ينتمي إليه ويتفاعل فيه، وهذا الإدراك والتصور هو الذي
يحدد المواقف والممارسات والسلوكات النفسية للشخص أثناء تعامله مع هذا المجال
الجغرافي[5].
ومن خلال ما سبق يمكن
اعتبار أن مفهوم المجال الجغرافي هو ذلك القاسم المشترك بين جميع الفروع الجغرافية
طبيعية كانت (التضاريس، النبات، الجيولوجيا المناخ...) أم بشرية ويتعلق الأمر هنا
بالجغرافية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية...لكن الأهم والجوهري في الدراسات
الجغرافية هو إظهار وإبراز الخصائص المجالية للظواهر المختلفة وتوزيعها الجغرافي
في المجال. هذا الأخير تتقاسمه معظم العلوم الأخرى بدون استثناء.
2-
قوانين المجال
عند روجي بروني
يعتبر بروني المجال بمثابة نسق لعلاقات انتاج
اجتماعي منظم يتألف من مواريث وذاكرات طبيعية واصطناعية. وله فاعلون منهم الأفراد
والجماعات، والمقاولات، والجماعات المحلية والدول. ويخضع في نره إلى قوانين وقواعد
تنظيمية وتمييزية كونية تعبر عنها الأنظمة الاجتماعية بطرق مختلفة وعلى رأسها
قاعدة الانجذاب، وبشكل عام ما يترتب عن المسافة والتجمع والتباعد[6]. وقوانين
المكان عند بروني ثلاثة وهي : سياق انتاجه، التقطيع والتشبيك، والانجذاب.
بالنسبة للقانون الأول فهو يشتمل أولا
على استعمال المكان، ثانيا على منظومة الفاعلين، وثالثا على موقع المكان وربطه
بظروفه العامة. فيما يخص استعمالات المكان، ترتبط عند كل مجتمع بأفعال أساسية
وشرورية لإعادة إنتاج ذلك المكان. ويلخصها بروني في نموذج يتألف من عدد من العناصر
المتفاعلة فيما بينها وهي: تملك الأرض واستغلالها، والتبادل بينن أجزائها
المتمايزة، والسكن وتدبير المكان بمحلاته وشبكاته. أما الفاعلون الذين يعملون في
المكان مباشرة أو بصفة غير مباشرة فإن بروني يرتبهم خمس فئات: الدولة، والجماعات
المحلية،والمؤسسة، والجماعة وأخيرا الفرد. أما فيما يتعلق بموقع المكان فإنه يقترح
له نموذجا مبسطا، يوضح فيه علاقاته المختلفة مع العناصر التالية: النظام الاجتماعي
السائد؛ الموروثات التي يعمل ضمنها هذا النظام والتي قد تكون مساعدة له أو معاكسة
له، وهي موروثات طبيعية وتاريخية في اَن واحد؛ فنظام الطاقة الذي يحرك المجتمع
المعني، وهو يكون حسب بروني على شكل تبادل دائري بين: القوى العاملة والإعلام
والموارد المعبأة محليا والرساميل وكل وسائل إنتاج المكان وتنظيمه، والتي قد تكون
محفزات كما قد تكون كوابح لنظام الطاقة المحركة للنظام برمته[7].
أما القانون الثاني: المتعلق بتقطيع التراب وتشابك الأمكنة،
اللذين يعتبرهما أساسي تنظيم المكان. والتقطيع عنده هو مجوع الفواصل التي تحتوي
الأمكنة من حيث تملك الأرض وإدارة التراب، باعتباره تقسيما عمليا واجتماعيا
للمجال. ويتم التقطيع على كل مستويات المقياس الجغرافي من القطعة الأرضية إلى تراب
الدولة. فالتقطيع إذن اصل المكان وأحد خصائصه الاساسية، حيث إن التملك يقتضي
بالضرورة تقسيم الأرض، كما أن السلطة على التراب وعلى الموارد الطبيعية والبشرية
تستدعي بدورها التقطيع، خصوصا عندما يبلغ الوضع درجة معينة من الأهمية والتعقيد.
يتخذ التقطيع أشكالا ذات رسوم كلاسيكية. أما
من حيث أبعادها فهي تتكيف مع السطح واستعمال الأرض وأهمية الملكية. كما أنها تعكس
مستوى التقنية وتسايره وإن ببطء. والتقطيع الاداري لا يتجلى للعيان، إلا من خلال
الخريطة؛ اللهم إلا إذا تطابق مع جماعات متميزة تبرز من خلال المشهد. فأغلبية
الخرائط تظهر مضطربة غير مرتبة كالمخرمة من مضطلعات غير منتظمة. ويلحظ المرء فيها
أثر بعض القواعد التي قد تتضارب فيما بينها. فمساحة القطيعة تتناسب طرديا مع أهمية
الخيرات وكثافة السكان من جهة، ومن جهة ثانية مع الاحتكاك بالسطح الناجم عن عدد من
العناصر كالتضاريس وحالة الطرق والمعوقات المتنوعة وتشتت السكن والغطاء النباتي
وكثافة السير، فيصبح مسألة زمنية لبلوغ الأمكنة.
أما التشبيك فهو عبارة عن شبكة ذات اتجاهات
ثلاثة متقاطعة كما هو الحال بالنسبة لنموذج الأمكنة المركزية. فهذا المصطلح الذي
حدده صاحبه في التسعينات يكون عند التقطيع كمرادف جزئي للتربيع، إلا أن الأول أفضل
منه لدقته. والتشبيك هو الذي يبث الحركة في المجال، دفعا وجذبا، ويؤمن التواصل بين
مراكزه المختلفة بناء على الهامش والمركز، إذ يوفر الأول الموارد، بينما يوفر
الثاني التنظيم.
ويميز بروني بين شكلين من هذه الشبكات: الأول
شجري ينطلق من نقطة أصلية وهو ذو اتجاه واحد ليمتد على شكل فروع وأغصان أو صف من
الأشجار المسندة ذات الأغصان المتوازنة كما هي شبكة الري. أما إذا كان الأصل قاعدة
وليس نقطة، فإن الشبكة أنداك تتكاثف أكثر. أما الشكل الثاني فهو يظهر حينما تتعدد اتجاهات
الشبكة فتظهر كالمروحة أو النجمة، لكنها تظل دائما متراتبة وموجهة على هيئة حزمة
من الاشجار.
ويرتبطان التقطيع والتشبيك ارتباطا وثيقا
بحيث يستطيع كل منهما أن يخلق الأخر ويعمل على تطويره وترسيخه.
أما القانون الثالث الذي يخص الانجذاب
فيقصد به الظاهرة الكبرى في الجغرافياالتي يعبر عنها أحد القوانين الأساسية لإنتاج
المكان حسب الصيغة: س= ك. م-ن،حيث يمثل ك الكتلة و ك المسافة ون أساسا غالبا ما
يساوي 2، نماما كصيغة إنشتاين المشهورة e=mc2، على أن المسافة تمثل نوعا عكس السرعة. ويمكن
قياس المسافة بالزمن أو بالكلفة، غير أن اساسها لا يتغير. ويعمل هذا الأخير في
اتجاهين، إذ له قوة تجذب الأشخاص والسلع، وقوة طاردة توزع الخيرات والخدمات على
المجال المحيط.
ويترتب عن الانجذاب تشكل ثلاث أكال لتنظيم
المكان: التفاعل بين الامكنة وتعبر عنه نظرية الأمكنة المركزبة التي على أساسها
يتحدد تقسيم مناطق نفوذ المدن. والممالات والانقطاعات التي تظهر في المكان والزمان
على شكل هالات أو أحزمة ابتداء من مراكز أو المحاور. وغالبا ما تتجلى هذه
الانقطاعات في السياقات اللا حظية. ويفرق بروني بين الإنقطاعات الحركية التي
يرجعها إلى السياقات حيث أنها تعبر عن انقطاع في الحركة، والانقطاعات الثابتة التي
تعبر عن نتائج محلية لهذه السياقات.، وهي مكانية بالضرورة حيث توجد في مكان ما
ولمدة زمنية محددة.
ويخلص بروني في خلاصة كلامه هذا إلى نتيجتين
أو قاعدتين وهما: أن المكان ينقسم من تلقاء نفسه؛ وأن الأنساق المكانية تؤتى من
مراكزها وليس من أطرافها، لأن هذا الأخير يضعف عند أطرافه فيصبح عرضة لأي حادث
ثانوي يستطيع أن يسبب الانقطاع. ويرى على أن الانقطاع لا يكون في الاشكال الأولية
بل في البنية والحركية، أي أنه يصيب الأنساق وفروعها المختلفة. ومنه فيجب الاهتمام
بالأنساق وليس بالحدود، حتى يمكن تفسير ظاهرة الانقطاع بين نسقين مكانيين متجاورين[8].
أما الشكل الثالث الذي ينتج عن الانجذاب فهو اللاتناظر الذي يعني التوزيع المكاني غير المتكافئ نسبة إلى نقطة أو خط معينين، وهو من مكونات المجال الجغرافي الذي لا يكون متنانسا أبدا.
المحور الثاني: الانقطاعات المجالية عند روجي بروني : المفهوم
والتصورات
1- فكرة الانقطاع
يقصد بالانقطاعات المجالية ذلك الانقطاع الذي
يحدث لظاهرة جغرافية في نقطة معينة، حيث تتغير بتداخل مجموعة من العوامل التي
تساهم في حدوث إنقطاع للظاهرة الأولى، تاركة المجال أمام بروز ظاهرة جغرافية أو
اجتماعية أخرى لها مميزات خاصة بها تميزها
عن تلك التي كانت سائدة فيما قبل. والانقطاعات التي نلامسها في واقعنا المعاش من خلال مشاهدة الظواهر
الطبيعية أو الاجتماعية تتميز بتنوعها وتشعبها داخل المجال. و لا تتقابل جميع
الأنواع مع بعضها البعض إذ نميز بين مجموعة من الأشكال على شكل عتبات مختلفة
ومتباينة فيما بينها[9].
1-1 أنواع العتبات
تتميز جل الإنقطاعات المجالية، خاصة التي
منها في طور النشوء أو التي تتطور باستمرار بحضور عتبات تفصل بينها. حيث كلما توقف
تطور لظاهرة مجالية معينة نلامس وجود عتبة تكون بمثابة الحد الذي تقف عنده تلك
الظاهرة وتبدأ ظاهرة جغرافية أخرى. أي أن الايقاع يتغير بين تطور الظاهرتين. ومن الأمثلة
التي تدل على هذا نجد ظاهرة تجمد الماء في بعض البحيرات، بانقسام هذه الأخيرة إلى
جزأين مختلفين الأول سائل والثاني متجمد تفصلهما عتبة ثالثة ما هي بمتجمدة ولا
بسائلة. وهناك مجموعة من العتبات التي تفصل بين الظواهر الجغرافية، كالعتبات
المجالية وعتبات التباعد بين الظواهر وعتبات الانقلاب أو التعارض[10].
ويعتبر روجي بروني نظرية الانقطاعات المجالية
إحدى أهم النظريات التي حاولت تفسير أثر الظواهر الطبيعية والبشرية على المجال في
شموليته، اي علاقة تأثير وتأثر فيما بين العنصرين السابقين. حيث اعتبر أن تطور
الظواهر الطبيعية والبشرية بمثابة نتيجة لما يحدث من تفاعلات بين مجموعة من
العوامل التي تتحكم فيها. وبنشوء هذه الظواهر فهي تساهم في حدوث انقطاعات مجالية
على مستويات مختلفة، سواء مورفولوجيا أو مناخيا أو انقطاع على مستوى الظواهر
البشرية ... كما يرى هذا الأخير على أن الانقطاعات بمثابة اشارة على الوصول إلى
قمة العتبة، اي أن حدوث انقطاع لعنصر معين يدل على وصوله إلى قمة التطور أو تعرضه
لعوامل أثرت على نموه. وكمثال على ما سبق نذكر الانقطاع الذي يحدث على مستوى شدة
الانحذارات التي تقل تدريجا كلما اتجهنا من الأعلى نحو الاسفل، والذي يرجع بطبيعة
الحال إلى مجموعة من العوامل التي تؤثر في حدوث ذلك، (مناخية وجغرافية...).
2- التصورات التي صيغت حول نظرية
الانقطاعات المجالية قبل روجي بروني
لقد اعتمد بروني على الأعمال السابقة التي طرحت ونوقشت من طرف ثلة من
العلماء والجغرافيون الذين سبقوه لهذا الميدان. وبين ذلك في أطروحته التي تحمل إسم
« les phénomènes
de discontinuités en géographie » ، التي حاول من خلالها صياغة تصورات ومفاهيم توضح العلاقة الكامنة مابين نظرية
الانقطاع المجالي والمجال وعلاقة التأثير والتأثر التي
تنشأ بينهما . وذلك من أجل تطوير هذا المفهوم ومحاولة مقاربة أهم الظواهر المرتبطة
به. ويعد بولينغ H.Baulig (1877 – 1962) أحد أهم الجغرافيين اللذين اهتموا بدراسة هذه
النظرية باعتباره رائدا في علم الجيومرفولوجيا ، إذ اهتم بالجيومرفولوجيا المناخية
الناشئة وذلك من خلال موضوعيين أساسيين : الأنهار الجليدية والصحاري ، عكس
الجيومرفولوجيا القديمة ( قبل أربعينيات القرن الماضي ) التي كانت تهتم بتكميم
موروثات المناخ القديم . وقد عمل بولينغ على انجاز أطروحة متعمقة تتعلق ب "
مناهج الجيومرفولوجيا " اعتمادا على انجازات بيير بيغو Pierre Birot .
وفي هذا العمل أعاد بولينغ إصلاح نظرية W. Penck إذ نقد هذه النظرية واعتبرها خاطئة لأنها
توضح عدم انقطاع الأشكال وبالتالي فقد عمل بولينغ على انجاز دراسته مصححا النتائج
الخاطئة التي توصل إليها W. Penck
في دراسته ، وقد اعتمد بولينغ على عدة دلائل وحجج للبرهنة على صحة نظريته التي
تتناقض مع نظرية W. Penck . [11]
وفي دراسة أخرى ل W. Penck حول نظرية الانقطاعات المجالية " يرى
أن زمرة التسويات المتدرجة على هامش كتلة مرتفعة والتي تتخذ شكل درج ، أو درج
البيمونت Piedmont إنما نتجت عن نهوض ، وإنها
عبارة عن توافق بين النهوض وبين الحت ، فلا تكون الدرجات مطلقا عبارة عن شواهد عن
شبه سهل كان في الماضي أكثر امتدادا ، بل عبارة عن سطوح تسوية جزئية توقف نموها
بتأثير حركات نهوض متعاقبة . وتؤدي فرضية العمل في هذه الحالة إلى تنظيم تصورات
على شكل منظومات متاخدة مثل نظرية السلالم أو درجات البيمونت Piedmont عند و . بنك "[12].
ومن جهة أخرى تحدث بولينغ عن نظرية
الانقطاعات المجالية من خلال نظرية اختلاف مستوى المحيطات ، أي نظرية انخفاض مستوى
البحار التدريجي ، إذ اعتمد بولينغ على هذه النظرية لتفسير التطور المرفلوجي في
الهضبة الفرنسية المركزية . وقد برهن بولينغ على التدرج العادي والمنتظم في مستويات
الحت البليوسنية ( نهاية الزمن الثالث ) في هذه الكتلة الهرسينية وحافتها المطلة
على البحر الأبيض المتوسط .
ويفترض مثل هذا التدرج تدرجا مرافقا في
مستويات الأساس المتعاقبة ، غير أنه يكون من الممكن تفسير تبدلات مستويات الأساس
سواء بنهوض القارات ، وهي نظرية تقابلها نظريتا " و . م . دايفيس ". " و
. بنك " ، أو بانخفاض المستوى البحري ، أي نتيجة حركات سوية للبحار. وقد برهن بولينغ بعد أن لاحظ سلامة مستويات
الحت وبعد أن عثر عليها في مناطق بعيدة و
مختلفة عن أقطار المغرب العربي ، برهن استنادا إلى العديد من الدراسات التحليلية
الإقليمية ، على أن اختلاف مستوى البحار تستطيع وحدها أن تقدم تفسيرا عقلانيا
للمستويات المتطبقة[13].
بالإضافة إلى ذلك فقد عمل بولينغ على دراسة
نظرية الانقطاعات المجالية من خلال دراسته للمصاطب النهرية مرفلوجيا ، ولاحظ أن
التواقيت بين المراحل الجمودية وبين المصاطب النهرية الذي يبدو مقبولا منطقيا يكون
مدحوضا بالوقائع ، ففي الواقع حدث خلال المرحلة الجمودية ردم نهري جمودي في عالية
الأودية ، لكن أدى انخفاض مستوى البحر باتجاه السافلة بتأثير تخزين كتلة هائلة من
الماء المحجوز في الجمودات فأدى إلى حفر الوادي ، وبالتالي تكون المصطبة في
السافلة معاصرة لمرحلة بين زحفين جموديين Interglaciaire . ومن هنا تمكن بولينغ من تفسير نظرية
الانقطاعات من خلال التدرج في تكوين المصطبات النهرية .
من خلال النظريات السالفة الذكر يتبين بان كل
من " بولينغ " و " بنك " درسا نظرية الانقطاعات المجالية من منظور طبيعي
وخصوصا من الجانب الجيومرفلوجي نضرا لكونهما رائدان في هذا العلم ، الا أن
تحليلهما لنظرية الانقطاعات المجالية اتسمت بالاختلاف وتضارب الرؤى ، الأمر الذي
جعل كل باحث يحاول دحض نظرية الآخر و تبرير نظريته.
3-
التصورات البارزة التي صاغها روجي بروني حول نظرية الانقطاعات المجالية
لقد ساهمت الابحاث العديدة التي قام بها روجي
بروني برقة زمرة من الباحثين، في مساعدته على تأسيس تصورات خاصة به حول نظرية
الانقطاعات المجالية، والتي اعتبرها إحدى أهم النظريات التي تفسر عدم الاستمرارية
في تطور مختلف الأشكال الطبيعية والظواهر البشرية . و قد تمكن بفضل دراساته
المعمقة من الربط بين الانقطاعات من جهة واستمرارية الأشكال والوقائع الجغرافية من
جهة ثانية . " إذ اعتبر بأن ظاهرة الانقطاعات يمكن أن تنتج أحيانا ظاهرة
الاستمرارية أو عدم انقطاع الأشكال . وأيضا فظاهرة الاستمرارية بإمكانها أن تساهم
في إنتاج شكل منقطع "[14].
وبالتالي فان العلاقة مابين الظاهرتين تبقى مترابطة وغير منفصلة .
بالإضافة إلى ذلك فان روجي بروني عمل على
التمييز بن نوعين من الانقطاعات وذلك طبقا لمعيار الدينامية والحركية التي تشهدها
هذه الانقطاعات ، وبالتالي ميز الانقطاعات المجالية إلى نوعين رئيسيين :
الانقطاعات الحركية : وتسمى أيضا بالانقطاعات الخارجية، وتعبر
عن الانقطاع في الحركة، وهي قد تدوم أو لا تدوم ، كم أنها لا ترتبط دائما بالمكان،
وتعد الجبهة كأفضل مثال على هذا النوع من الانقطاعات .
الانقطاعات الثابتة : وتدعى أيضا بالداخلية أو النسقية ، وهي
تعبر عن نتائج محلية لعدد من السياقات ، كما أنها توجد في مكان ما ولمدة ما ، فهي
مكانية بالضرورة عكس الانقطاعات الحركية . الا أن هذه الانقطاعات الثابتة لا تبقى
دائما جامدة لأن الأمر يتعلق إلى حد بعيد بمقياس الملاحظة وبعلاقة الزمان والمكان
.
ومن جهة أخرى فقد اعتبر روجي بروني نظرية
الانقطاعات المجالية واحدة من أبرز أشكال التنظير المجالي التي تفسر عدم استمرارية
الأشكال والانقطاع المفاجئ في تطور الظواهر الطبيعية والبشرية . وعلى هذا الأساس
تمكن من صياغة تصورات تهم تفسير كيفية حصول هذه الانقطاعات على مستوى الأشكال
المرفوبنيوية من جهة و اكتشاف أهم التركيبات المكانية التي تتميز بمظاهرها الخاصة
واستقرارها النسبي من جهة أخرى .
فإذا أخذنا على سبيل المثال الانقطاعات التي
تحصل على مستوى الجبل وقدم الجبل ، وما ينتج عن ذلك من ركامات ومفتتات صخرية، فان
عنصر الحاذور يكون حاضرا بقوة باعتبار أن المفتتات الصخرية الناتجة عن تعرية
المناطق الجبلية تجد طريقها نحو أقدام الجبال بفعل قوة الانحدار وأهمية الجريان
المائي وضعف الغطاء النباتي في العالية ، وبالتالي هته الركامات التي تترسب عند
قدم الجبل تشكل عن طريق تلاحمها وتصلبها ما يسمى بالحت، الأمر الذي يجعل هذه
المناطق أكثر خصوبة ودينامية . وبالتالي فان الانقطاعات التي تحصل على هذه
المستويات هي تساهم بشكل مباشر في تغيير المشهد العام لهذه المناطق و تعطيها حركية
و دينامية مستمرة .
أما فيما يخص الانقطاعات التي تحصل على مستوى
المناخ ، فهي تتجلى في عدم استمرارية مناخات تتميز بخصائص رطوبية وحرارية معينة من
حيث الزمان والمكان ، وتتلخص في البداية بسيادة مناخ يتميز بدرجات حرارة منخفضة ،
مما يؤدي إلى تجمد الوسط الطبيعي الذي يسود فيه هذا المناخ . وفجأة يحدث انقطاع (
تقطع ) على المستوى المناخي ، ويتحول من مناخ بارد ومتجمد إلى مناخ معتدل أو حار،
يتميز بارتفاع درجات الحرارة . وهذا الارتفاع المفاجئ في درجات الحرارة ينتج عنه
ذوبان الجليد الذي ساد في فترة المناخ الأول . وبالتالي فان هذا الذوبان ساهم في
ازدياد حجم الحمولة النهرية سواء من حيث كمية المياه أو من حيث كمية الرواسب التي
تحملها . ( تعاقب فترات جليدية و أخرى بيجليدية ) .
ان تعاقب هذين المناخين ( البارد و الحار )
ينتج عنه تعاقب للذوبان و التجمد الأمر
الذي يؤثر بشكل كبير على كمية الرواسب الناتجة عن عملية التعرية و التجوية التي
تعرفها الصخور نتيجة للاختلاف الحراري مابين الفصول و مابين الحقب الزمنية . فكما
هو معلوم فان تجمد المياه الموجودة بالمسامات وشقوق الصخور يساهم في تهشيم الصخر
بفعل الضغط ، الأمر الذي يساهم في تغيير ملامح المظهر العام للسطح .
وبالتالي فان النواتج الناتجة عن عملية تهشيم
الصخر تنقلها مياه الأنهار لتترسب على الخصوص بالمناطق الموجودة بأقدام الجبال (
مروحة الانصباب ) نظرا لضعف الانحدار بهذه المناطق ، الأمر الذي ينتج عنه عدم قدرة
المياه على نقل تلك الرواسب .
يرى على أن هناك أنماطا مكانية متكررة. ومنها
المملوء والفارغ على صعيد العالم المتميز بتفاوت كثافته السكانية؛ المدن العملاقة،
وهي الاَن ثلاثة تجمعات ضخمة تهيمن على العالم، وأكبرها التجمع الاوروبي؛ الممسات
وهي المجالالت التي يتم فيها العبور ويحدث التواصل مثل البرزخ والمضيق والخور ...
"الوجائه" مثل الحاشية والساحل والابط، "الجبهات
والحدود".
ومن خلال ماسبق فان مختلف أشكال الانقطاعات
سواء على المستوى الجيومرفولوجي أو على مستوى المناخي هي تساهم بشكل واضح في تغيير
ملامح السطح وخلق أشكال مرفولوجية جديدة .
خاتمة
وعموما فيلاحظ على أن روجي بروني قد اهتم
كثيرا بالمجال الجغرافي ونظرية الانقطاعات المجالية، التي حاول تفسير وتبيان أهم
ما يميزها، حيث خلص في نظريته هذه إلى عدم استمرارية الأشكال الطبيعية التي يحدث
لها انقطاع مفاجئ في منحى تطور الظواهر الطبيعية من جهة والظواهر البشرية من جهة
ثانية. وعليه فقد سبقت الاشارة إلى أنه قد ميز بين نوعين من الانقطاعات التي
يعرفها المجال الجغرافي. وذلك عائد إلى معياري الدينامية والحركية الذين تشهدهما
هذه الأنقطاعات. ونجده قد خلص إلى معرفة الطريقة التي تتم عليها هذه الانقطاعات،
خاصة على المستويين المناخي والمورفوبنيوي.
لائحة المراجع
1- باحو (عبد العزيز)، محاضرات في الفكر الجغرافي الحديث، مسلك الجغرافيا،
كلية الاداب والعلوم الانسانية بالرباط، السنة الجامعية 2007-2008.
2- بلفقيه، (محمد)، 2002م، "الجغرافيا القول عنها والقول فيها،
المقومات الابستمولوجية"، الطبعة الأولى، مطبعة المعارف الجديدة – الرباط، ص
304.
3- رينيه (كلوزييه )، ترجمة حميدة (عبد الرحمان)، " تطور الفكر الجغرافي " 1982 دار الفكر للطبع ، دمشق . سوريا – ص 150.
1-
Olivier Dollfus, L’espace géographique, P.U.F, 1970.
2- Roger Brunet « les phénomènes de discontinuités en géographie » 1968. Editons Du
Centre Nationale De La Recherche Scientifique . France
3 - R. Brunet, Les mots de la géographie, Reclus, 1992.
[1]
- Olivier DOLLFUS, L’espace géographique,
P.U.F. ,1970,126 p
[2] - R. Brunet, Les mots de la géographie, Reclus, 1992
[3] - بلفقيه، (محمد)، 2002م، "الجغرافيا القول
عنها والقول فيها، المقومات الابستمولوجية"، الطبعة الأولى، مطبعة المعارف
الجديدة – الرباط، ص 304.
[4] - نفس المرجع السابق، ص
311.
[5] باحو (عبد العزيز)، محاضرات في الفكر الجغرافي
الحديث، مسلك الجغرافيا، كلية الاداب والعلوم الانسانية بالرباط، السنة الجامعية 2007-2008.
[6] بلفقيه، (محمد)، مرجع سابق ص 323.
[7] بلفقيه (محمد)، مرجع سابق ص 368.
[8] نفس المرجع السابق ص 374.
[9]
Roger Brunet « les phénomènes de
discontinuités en géographie » 1968. Editons Du Centre Nationale De La Recherche
Scientifique . France . P 13 (بتصرف )
[10] نفس المرجع السابق، ص 14.
[11] Roger Brunet « les phénomènes de discontinuités en géographie »
1968. Editons Du Centre Nationale De La
Recherche Scientifique . France . P
71 (بتصرف )
[12] رينيه (كلوزييه )، ترجمة حميدة
(عبد الرحمان)، " تطور الفكر الجغرافي " 1982 دار الفكر للطبع ، دمشق .
سوريا – ص 150.
[13] نفس المرجع السابق . ص 151.
[14]
Roger Brunet « les
phénomènes de discontinuités en géographie » 1968. Editons Du Centre Nationale De La Recherche
Scientifique . France . P 72 (بتصرف )
إرسال تعليق